فلورة مياه الشرب (أي إضافة مادة الفلوريد) تتم لحماية الأسنان من التسوس. هذا من الناحية العلمية. لكن هناك من يتناول الموضوع من الناحية السياسية، وحتى الأمنية. وهؤلاء هم من يطلق عليهم «أنصار نظريات المؤامرة»، المقتنعين بأن إضافة الفلور إلى الماء ليس سوى طريقة أخرى لمراقبة المواطنين أي التلصص عليهم.. كيف هذا؟!
بالرغم من أن «فلورة المياه» تعتبر من ضمن الإجراءات الصحية الواسعة والأكثر انتشارا التي تم تبنّيها خلال القرن العشرين، وتستخدمها معظم الدول المتطورة في العالم منذ خمسينيات القرن الماضي، وتنصح بها المنظمة العالمية للصحة (WHO)، بهدف خفض احتمالات تسوس الأسنان، إلا أن أصحاب نظرية المؤامرات يقولون إن مادة الفلور تجعل العقل بليدا، وتخفض استقلالية الإنسان وتُضعف جهازه المناعي.
وفي حين يشير أنصار النظرية الأولى إلى انخفاض نسبة تسوّس وتحلل الأسنان بشكل طويل الأمد، خصوصا بين المواطنين الذين يشربون المياه المفلورة، يقول معارضو الفلورة إنهم يملكون في جعبتهم مآخذ من العيار الثقيل. فهم يرون في إضافة مادة الفلوريد إلى مياه الشرب محاولة من النخبة المتآمرة لتسميم المواطنين والتحكّم بهم.
تماماً كما هي الحال في نظريات المؤامرة الفضائية، فإن قضية فلورة المياه هي أيضا ظاهرة يتحدث عنها كثير من نظريات المؤامرة بدلا من أن تكون مؤامرة بحد ذاتها. بكلام آخر، النظريات المختلفة حول المؤامرة ترى أسبابا عديدة وراء «الخيال الخافت الخاص بتسوس الأسنان»، تثيرها أو تهتم بنشوئها مجموعات ضغط مختلفة. أما أشهر التحليلات حول نظريات المؤامرة فهي التالية:
• الفلورة تخدم كتجربة لتقييم تأثير المواد القتالية على المواطنين.
• شركات الأدوية تريد خفض سلامة وصحة المواطنين، لكي تتمكن من بيع مزيد من الأدوية.
• الحكومة أو الشركات الضخمة تريد خفض استقلالية المواطنين وقدرتهم على اتخاذ القرار، وأن تجعل منهم بالتالي أشخاصا مطيعين، أو بمنزلة قطيع يمكن التحكم فيه بسهولة.
• يجب ألا ننسى الكائنات الفضائية، النازيين والسي آي إيه، حيث إن هذه المجموعات الثلاث تتواجد في كل نظريات المؤامرة، بغض النظر عن موضوعها.
• المتنوّرون يضيفون الفلوريد إلى المياه لكي يخفضوا نسبة الولادة بين المواطنين.
• النخبة تريد خفض معدل ذكاء المواطنين، لكي تنشأ كتلة من الناس العاديين المعتمدين على المجتمع الاستهلاكي وعلى الحكومة.
الأذكياء ينقرضون
ومن بين أجمل الاقتباسات وأشهرها يوجد ذلك الصادر عن منظر نظريات المؤامرة راسين بلايلوك: «يتم إنشاء مجتمع يتناقص فيه عدد الأفراد الأذكياء. معظم الناس هم عاديون، معتمدون بشكل كامل على الحكومة. يصدّقون كل ما يقال لهم، لأنهم غير قادرين على التفكير بشكل جيّد (وهذا مرتبط تحديدا بموضوع الفلورة). ومن ثم هناك أيضا مجموعة صغيرة جدا من هؤلاء الأذكياء للغاية، القادرين على كشف واقع الأمر».
ولا يجب على الإنسان بالطبع أن يكون من ضمن مجموعة الناس الأذكياء جدا لكي يفهم، بأن بلايلوك قد وضع في خانة الأغبياء كل من لا يرى المؤامرة كما يراها هو.
هل نمنع الخبز؟
البراهين والحجج التي يعتمد عليها أنصار نظريات المؤامرة تؤخذ في غالب الأحيان من الإحصائيات المرعبة أو الأمثلة التاريخية المخيفة. اخترنا في هذا السياق فيلم فيديو تقليديا عن نظرية المؤامرة يدعى: «الفلوريد.. مؤامرة المتنوّرين». هذا الفيلم، كما جرت العادة الضرورية في مثل تلك النظريات المؤامراتية الهستيرية، لا يأبه كثيرا لعملية خلط التفاح مع الإيجاص بشكل عشوائي. كما أن المخرج يستخدم تصريحات شهيرة تهدف لمنح المشاهد شعورا مفاده أن كل شخص ذكي يُدرك بأن ثمة شيء غير عادي يجري هنا.
فلننظر إلى تلك الحجج بشكل منفرد ارتباطا بنظرية المؤامرة المفبركة حول مضار الخبز، مثلا. فالخبز يُعطى بشكل تقليدي للسجناء في السجن. بكلام آخر، فإن استخدام شيء في السجن لا يعني أنه يجب بالضرورة أن يكون موجها ضد السجناء، بل لأنه قد يوفّر الأموال على السجّانين. وهل نصف الأطفال الذين يأكلون الخبز بأنهم يتمتعون بمستوى ذكاء تحت العادي؟
إن «الأدلّة» المشار إليها أحيانا والمرتبطة بتورط النخب القوية جدا، والقادرة على التحكم في العلماء، وسائل الإعلام والأطباء، ليست سوى أدلة تدور في حلقة مفرغة، وبالتالي لا تستأهل الحديث عنها. وهي تستبعد عادة جميع النتائج الرسمية من المصادر الجدير بالثقة، وبالتالي لا يمكن التدقيق في ما يبقى منها، ما يفتح الطريق لاحقا أمام حركة التخمين المتوحشة. وكذلك بالطبع لإطلاق صرخات مثل: «أستيقظوا أيها المواطنون».
نظرة واقعية
لكن تجدر الإشارة إلى أن كثيرين في العالم وفي الولايات المتحدة تحديدا، جعلوا من نظرية المؤامرة المعادية للفلوريد مكسبا لرزقهم. فالفيلم الخاص بذلك يرعبكم في البداية بما يزعمه بأن المياه المشبعة بالفلوريد تساهم في القضاء على الإنزيمات المفيدة وبالسيطرة على عقولكم، وبعد ذلك مباشرة ينصحكم بشراء الفيلتر والكتاب اللذان يمنحانكم كل ما قد تحتاجون إليه لحماية أنفسكم.
يشير البروفيسور التشيكي بروكال من معهد الأبحاث الخاصة بأمراض الأسنان، «بأن نظرية المؤامرة الخاصة بفلورة المياه هي مفهومة في الإجمال. وفي الولايات المتحدة تحديدا عانت الحكومة من فضائح مختلفة بسبب التجارب الطبية غير التطوعية التي أجريت على المواطنين، وبالتالي يمكن للمرء أن يفهم أن الناس هناك يشكّكون دائما».
وحسب رأيه، فإنه من المهم النظر إلى مسألة فلورة مياه الشرب بشكل متكامل ومترابط. ففي الخمسينات لم يكن المواطنون يملكون مصادر كثيرة للفلوريد، وبالتالي كان للفلورة معنى كبير، أما خلال عشرات الأعوام القليلة الماضية، فقد أصبح في السوق ما يكفي من معجون الأسنان ومياه تعقيم الفم، أو الملح أو حتى العلكة التي تحتوي جميعها على مادة الفلوريد.
رعاية الأسنان
لكن بروكال يحذّر من «أنه يجب الانتباه دائما إلى أنه حتى لو كان يوجد في السوق الوسائل التي تساعد على رعاية أسنان الأطفال بشكل جيد، فإنه لا تزال هناك مجموعات من الناس التي لا تهتم بذلك أبدا». وعملية الفلورة قد تشكّل معنى كبيرا اليوم لتلك الفئة تحديدا، أي للأشخاص الذين لا يسمح لهم وضعهم الاجتماعي أو ثقافتهم بأن يقدّموا للأطفال الرعاية الكاملة لأسنانهم.
ولا يزال المجتمع المتخصص يناقش حتى اليوم فيما إذا كانت عملية إضافة الفلوريد هي ناجحة في إطارها العام، أي فيما إذا كانت المنافع القياسية تغطّي على المخاطر الطفيفة. يفسّر بروكال ذلك في هذا السياق بأن «المشكلة الرئيسية تكمن في فرض رعاية كهذه وفي المساحة التي تفرض فيها، مثلما هي الحال لدى التطعيم. ويتساءل: «هل لدينا الحق لفرض تطعيم مؤلم عندما نعلم بأن النتيجة ستتمثل في القضاء على وباء خطير؟».
الحل حسب رأيه يكمن في تثقيف المواطنين. ويجب على طبيب الأسنان أن يقيّم كيفية تعامل الطفل مع الغذاء، وأن ينصح بالاستناد إلى ذلك في ما إذا كان ضروريا إضافة مادة الفلوريد، أو أن الطفل سيحصل عليه من الغذاء الكافي.
«الأطفال لا يصلون إلى طبيب الأسنان بشكل دائم، لأن ثمة نسبة قليلة من الأهل الذين يتمتعون ببعد نظر. وعندما يقرر الأهالي المجيء، يكون طبيب الأسنان مشغولا جدا ولا يملك الوقت الكافي لهم. الأمر المثالي هو أن يكون هناك طبيب لكل عائلة، لكن ذلك صعب المنال طبعا. كما أنه لا يوجد في الوقت الحاضر تعاون دائم بين أطباء الأسنان والأطباء العامّين، حيث إن الأخيرين ينصحون في كثير من الأحيان بتناول أقراص الفلوريد كدواء، في حين لا ينصح به أطباء الأسنان.. بإيجاز: في بعض الدول تم التوقف عن فلورة مياه الشرب، إلا أن معجون الأسنان المتوافر وبعض مياه الشرب التي تباع في التعاونيات، تحتوي على الفلوريد.
وتشير الإحصائيات إلى انخفاض نسبة تسوس الأسنان في تشيكيا على سبيل المثال، التي لا تتبع أسلوب الفلورة، مقارنة بدول أخرى موجودة على شرقها. وقد تبيّن أن ما يلعب دورا رئيسيا في هذا السياق هو الوضع الاجتماعي والثقافي للأهل، لا استهلاك السكر أو طريقة الغذاء. وهذه هي المعايير الرئيسية التي تحدد حتى العناصر الأخرى.
ملاحظة
يدور نقاش جدي حول فعالية فلورة مياه الشرب بين الأطباء، الكيميائيين، الاقتصاديين وغيرهم من الاخصائيين. والتأكيد التالي، بعكس ذلك، يتميّز بعدم تمتعه بطابع علمي، وبأنه هستيري ومتلاعَب به. وبالنظر إلى توجه المقال نحو نظريات المؤامرة، فإننا نمنح المجال في البداية لتلك الصرخات الراديكالية.
جدير بالذكر أن فلورة المياه لا تتم حاليا في كل الدول الأوروبية. ففي تشيكيا على سبيل المثال تم التوقف عن استخدام هذه الطريقة منذ عام 1988، في حين لا يزال العمل فيها مستمرا في معظم الدول الغربية منذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم. وفي الولايات المتحدة تصل المياه المفلورة إلى حوالي ثلثي الشعب.
ما الفلورة؟
بدأ التفكير بمسألة إضافة مادة الفلوريد إلى مياه الشرب منذ بداية القرن العشرين، وذلك بهدف التقليل من عملية تسوس أو تحلل الأسنان. وقد انتشرت عملية فلورة مياه الشرب منذ عام 1945 في أميركا الشمالية والجنوبية، أوروبا، أستراليا ودول أخرى. ويفيد البروفيسور زدينييك بروكال، بأن «الفلورة هي واحدة من وسائل الوقاية من تسوس الأسنان». «وفي المبدأ، فإن ارتفاع نسبة مادة الفلوريد في الفم تخفض عملية تحلل الأسنان بواسطة المنتجات الحمضية، التي تأتي إما من الغذاء أو بسبب النشاط البكتيري».
إن فلورة مياه الشرب هي بمنزلة محاولة لإيصال الفلوريد لأكبر قدر ممكن من الناس، وبالتالي تأمين وقاية مجانية حتى لتلك الطبقات من الناس التي لا يمكنها الحصول على الفلوريد بغير ذلك.
وتعتبر الفلورة مثيرة للخلاف بسبب حجم تطبيقها بالدرجة الأولى: فالناس الموجودين في منطقة المياه التي يوجد فيها فلوريد لا يمكنهم اختيار أي مياه أخرى. والأطباء الذين يدافعون عن عمليات الفلورة يؤمنون بأن الدراسات تُظهر بشكل مقنع تماما أن الفلوريد الموجود بنسبة 1 ملغ على ليتر واحد من مياه الشرب لا يثير أي عوارض جانبية، وبأن ثمة أعراض جانبية طفيفة للغاية (مثل ارتفاع نسبة تلوّن الأسنان عند بعض الناس) إلا أنها تبقى هامشية إذا ما تمّت مقارنتها بالإيجابيات الكثيرة. كما أن منظمة الصحة العالمية تنصح بشكل مستمر بإضافة تلك المادة إلى مياه الشرب.
المهم، خصوصا لدى الأطفال، الانتباه إلى كمية الفلوريد التي يستهلكها المرء يوميا.
فريق العمل
- محمد حسن
- حسشن عز الدين