منذ نحو ستة أشهر قررت أن أقوم بجولة صيفية في عدد من المدن الأوروبية التي لم أزرها من قبل و ذلك بهدف التعرف على وجه آخر لهذه القارة العجوز و التي لم ينكشف لنا نحن العرب ربما لأننا لم نهتم به من قبل أو لأنه لا يوفر لنا المساحة من الملاذ المريح و الذي دائما ما نسعى له خوفا من التغيير أحيانا و هربا من المغامرة في أحيان أخرى.
في بداية هذه الرحلة الشتوية و التي إنطلقت منذ نحو خمسة و عشرون يوم كنت قد عاهدت نفسي على أن لا أزور مدينة سبق أن تجولت في شوارعها أو سبق أن طبعت هي في مخيلتي ذكرى إلا أنه و كما حدث في رحلة الصيف حين قمت بزيارة باريس و التي سبق أن زرتها من قبل قمت هذه المرة بأن أنهيت رحلة الإكتشاف الشتوية بزيارة عاصمة و لا كل العواصم و مدينة لا تشبه غيرها سبق أن زرتها من قل هي براغ عاصمة الجمهورية التشيكية التي تعد عنوانا حقيقيا لشعب أكبر من أن تسجله سطور التاريخ و أعند من أن توصفه ملاحم الشعراء.
تستطيع أن تتلمس سحر المكان و القيمة المعنوية للتاريخ على جانبي ذلك الطريق الطويل حيث تصطف على جانبيه بيوت الأزياء و المطاعم الفاخرة و الفناق المرفهة و التي ذكرتني بشئ من الرومانسية بـ”شانزيليزيه باريس” مع الفرق الشاسع بينهما و الإختلافات الجذرية بين ما يمكن إعتباره شعرا موزونا و ديوانا ناصعا للتاريخ و بين فن عصري من مدرسة بيكاسو و تكعيباته العبثية، فساحة “قوس النصر” تمخطر بها و من خلالها هتلر منتصرا عند دخوله باريس بينما تزهو “ساحة وينسيسلاس” بإعتبارها المسرح الذي تجسدت فيه مأساة ربيع براغ الأسطورية حيث خلدت معاني القومية و الوطنية التشيكية بأبهى صورها عندما صرخت الحناجر و قدمت الصدور عام ١٩٦٧م أمام دبابات الإتحاد السوفيتي المحتل و الذي سحقها ظلما و بهتانا، و هو ذات المكان الذي كان له موعد مجددا مع التاريخ الناصع عندما إحتضن بين جنباته عام ١٩٨٩م الثورة المخملية الشهيرة و التي أطاحت بالشيوعية في البلاد.
الإحساس بأنك معلق بين الأرض و الأرض يبقى في عقل الباحث عن أمكنه جديد نشوى لا تضاهيها نشوى، و السير على الجسور ذات السحر هو كالمشي في الفضاء فوق الأرض و ضمن حدود أقرب ما تكون خارج الزمن، فقد إنتابني شعور بأن الماء التي تدفقت من تحت ذلك الجسر العتيق قد توقفت في عام ١٣٧٥ م حينما وضعت أول أساساته، و أن إسمه الذي ينطقه المحليون “كارلوف موست” ما هو إلا ترنيمه أو تعويذة أو همهمة سحرية للسفر عبر الأبعاد التي نعرفها نحو بعد خامس لا نعي بوجوده بعد و لا أقوم رابع.
على أكتاف ذلك الجسر الذي أصبح مسارا للعشاق و طريقا للسواح و ملجأ وقتي للباحثين على الإيجابات و الأبجديات وجدت نفسي أقف وحيدا لا يزاحمني المكان أحد، هناك في منتصف الأمتار الـ٥١٦ المعلقه لا أقوم بشئ سوى بالتلفت من حولي لأستمع لصوت الهواء و قصص التماثيل التي تعلقت بجانبي المكان تخليدا لقناعات إيمانية و ملاحم تاريخية و بطولات شخصية لأقوام كانوا هنا و ربما مروا من هناك، لأقول لنفسي يا فتى في ثوب رجل يا إبن العربي صاحب بعض القناعات الخارجه عن المألوف و إبن نصفك الإيطالي الباحث عن سحر الشرق في مراتع الغرب أين المفر من مستقبل كتبت سطوره بلحظات عمرك و لونت ملامحه بأنفاسك العابرة، هل من مكان في ذاكرة المكان أكثر خلودا من هذه، إبقى معلق بين الأرض و الأرض و إترك الزمان يمضي نحوك بهدوء.
لا أدري لماذا نبقى نحن العرب دائما أسيري مساحاتنا الضيقة و أمكنتنا التي تعودنا عليها، و لماذا نستهجن الخروج عن ما إعتاد عليه الناس من منطلق أن الموت مع الجماعة رحمة، كيف لنا أن نفهم العالم و نحن نحبس أنفسنا في صناديق مشكلة سابقا و تعريفات توارثناها عبر السنين حتي أصبحت مفرغة من أي معنى أو قيمة، لماذا نهاب أن نكون لوحدنا عندما نستطيع أن نكون مع الجميع، أليس ذلك أفضل إختبار يأهل الإنسان لتجاوز الوحدة عندما يجبر عليها، ألسنا نمر في هذه الحياة بإختبار الحياة و ما بعدها، فلماذا نبقى هنا دون أن نفكر في أن العالم يستوعب أكثر من مجرد ما تراه أعيننا و تسمعه آذاننا و تعيه بصيرتنا المعطلة.
براغ أحبتي هي مدينة الإلهام التي تمكنت مني دون أن أعلم و غيرت فيني دون أن تغير مني، فعندما تعود لمكان بفعل عوامل الجاذبية الإنسانية تأكد بأنك قد وقعت في شباك السحر و أصبحت رهينه في يد من يملك معاني لا محدودية الجمال، ففي كل يوم يمر تزود في عقلك المتعب لا أسئلة بل تساؤلات، و في كل لحظة تحاول بها تجاوز ما يمكن أن تجتاز تنتابك رعشات البحث من جديد، فإن كنت مثلي قد أصيب عقلك بداء مستغرب إسمه “السعي للإكتشاف” فقم برحلة العمر الخارجة عن المألوف و لو مرة في حياتك لتنعم بتلك الجرعة الشافية من روح تلك المدينة في ساعة المغرب بينما يطفو عقلك على ضفاف المستحيل و تزهو روحك في بساتين الخيال و يغدو جسدك الحميم مختالا في سيره في طرقات المدينة القديمة.